فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)}
أخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طريق محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عباس رضي الله عنهما. أنه قرأ: {ألا إنهم يثنون صدورهم} وقال أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم.
وأخرج البخاري وابن مردويه من طريق عمرو بن دينار رضي الله عنه قال: قرأ ابن عباس رضي الله عنهما {ألا إنهم تثنوا في صدورهم}.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر من طريق ابن أبي مليكة رضي الله عنه قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: {ألا إنهم تثنوا في صدورهم} قال: كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم كراهة أن يفضوا بفروجهم إلى السماء.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {ألا إنهم يثنون صدورهم} قال: الشك في الله وعمل السيئات.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الله بن شداد بن الهاد رضي الله عنه في قوله: {ألا إنهم يثنون صدورهم} قال: كان المنافقون إذا مر أحدهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وتغشى ثوبه لكيلا يراه فنزلت.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {يثنون صدورهم} قال: تضيق شكًا وامتراء في الحق: {ليستخفوا منه} قال: من الله إن استطاعوا.
وأخرج ابن جرير عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {ألا حين يستغشون ثيابهم} قال: في ظلمة الليل في أجواف بيوتهم.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي رزين رضي الله عنه في الآية قال: كان أحدهم يحني ظهره ويستغشى بثوبه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله. قال تعالى: {ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون} وذلك أخفى ما يكون ابن آدم إذا حنى ظهره واستغشى بثوبه وأضمر همه في نفسه، فإن الله لا يخفى ذلك عليه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {ألا إنهم يثنون صدورهم} يقول: يكتمون ما في قلوبهم: {ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم} ما عملوا بالليل والنهار.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني رضي الله عنه في قوله: {يثنون صدورهم} يقول: يطأطئون رؤوسهم ويحنون ظهورهم.
وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن كعب رضي الله عنه في قوله: {ألا حين يستغشون ثيابهم} قال: في ظلمة الليل وظلمة اللحاف.
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله: {ألا إنهم يثنون صدورهم} قال: يكبون: {ألا حين يستغشون ثيابهم} قال: يغطون رؤوسهم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ}
قوله تعالى: {يَثْنُونَ}: قراءةُ الجمهورِ بفتح الياء وسكونِ الثاءِ المثلثةِ، وهو مضارعُ ثنى يَثْني ثَنْيًا، أي: طوى وزوى، و{صدورَهم} مفعول به والمعنى: يَحْرِفون صدورَهم ووجوههم عن الحق وقبولِه والأصل: يَثْنِيُون فأُعِلَّ بحذفِ الضمةِ عن الياء، ثم تُحْذَفُ الياءُ لالتقاءِ الساكنين.
وقرأ سعيد بن جبير {يُثْنُون} بضم الياء وهو مضارع أثنى كأكرم. واستشكل الناسُ هذه القراءةَ فقال أبو البقاء: ماضيه أَثْنى، ولا يُعرف في اللغة، إلا أن يُقالَ: معناه عَرَضوها للانثناء، كما يُقال: أَبَعْتُ الفرسَ: إذا عَرَضْتَه للبيع. وقال صاحب اللوامح: ولا يُعرف الإِثناء في هذا الباب، إلا أن يُرادَ بها: وَجَدْتُها مَثْنِيَّة، مثل: أَحْمَدْتُه وأَمْجَدْتُه، ولعله فتح النون، وهذا ممَّا فُعِل بهم فيكون نصب {صدورَهم} بنزع الجارِّ، ويجوز إلى ذلك أن يكون {صدورهم} رفعا على البدلِ بدلِ البعض من الكل. قلت: يعني بقوله: فلعله فتح النون، أي: ولعل ابنَ جبير قرأ ذلك بفتح نونِ {يُثْنَون} فيكون مبنيًا للمفعول، وهو معنى قولِه وهذا مما فُعِل بهم، أي: وُجِدوا كذلك، فعلى هذا يكون {صدورَهم} منصوبًا بنزع الخافض، أي: في صدورهم، أي: يوجد الثَّنْيُ في صدورهم، ولذلك جَوَّز رفعَه على البدل كقولك: ضُرِب زيدٌ الظهرُ. ومَنْ جوَّز تعريفَ التمييز لا يَبْعُدُ عنده أن ينتصبَ {صدورَهم} على التمييز بهذا التقديرِ الذي قدَّره.
وقرأ ابن عباس وعلي بن الحسين وابناه زيد ومحمد وابنه جعفر ومجاهد وابن يعمر وعبد الرحمن بن أبزى وأبو الأسود: {تثنونى} مضارع {اثنونى} على وزن افْعَوْعَل من الثَّنْي كاحلولى من الحَلاوة وهو بناءُ مبالغةٍ، {صدورُهم} بالرفع على الفاعلية، ونُقِل عن ابن عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق: {يثنونى صدورُهم} بالتاء والياء، لأن التأنيثَ مجازيٌّ، فجاز تذكيرُ الفعلِ باعتبار تأوُّل فاعلِه بالجمع، وتأنيثُه باعتبار تَأْويل فاعلِه بالجماعة.
وقرأ ابن عباس أيضًا وعروة وابن أبزى والأعشى {تَثْنَوِنُّ} بفتح التاء وسكونِ الثاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة والأصلُ: تَثْنَوْنِنُ بوزن تَفْعَوْعِلُ وهو الثِّنُّ وهو ما هشَّ وضَعُفَ مِن الكلأ، يريد مطاوعةَ نفوسِهم للثَّنْي كما يُثْنى الهشُّ من النبات، أو أراد ضَعْفَ إيمانهم ومرض قلوبهم. و{صدورُهم} بالرفع على الفاعلية.
وقرأ مجاهد وعروة أيضًا كذلك، إلا أنهما جَعَلا مكانَ الواوِ المكسورة همزةً مكسورةً فأخرجاها مثل تطمئن. وفيها تخريجان، أحدهما: أنَّ الواوَ قُلِبَتْ همزةً لاستثقال الكسرة عليها، ومثله إعاء وإشاح في وِعاء ووشاح، لَمَّا استثقلوا الكسرةَ على الواو أبدلوها همزةً.
والثاني: أن وزنه تَفْعَيلُّ من الثِّن وهو ما ضَعُف من النبات كما تقدم، وذلك أنه مضارع لاثْنانَّ مثل احْمارَّ واصْفارَّ، وقد تقدَّم لك أن مِن العرب مَنْ يقلبُ مثلَ هذه الألفِ همزةً كقوله:
............................. ** بالعَبيطِ ادْهَأَمَّتِ

فجاء مضارع اثْنَأَنَّ على ذلك كقولك: احْمَأَرَّ يَحْمَئِرُّ كاطمأَنَّ يطمئِنُّ. وأمَّا {صدورُهم} فبالرفع على ما تقدم.
وقرأ الأعشى أيضًا {تَثْنَؤُوْنَ} بفتح التاء وسكون المثلثة وفتح النون وهمزةٍ مضمومةٍ وواوٍ ساكنةٍ بزنة تَفْعَلُون كتَرْهَبُون.
{صدورَهم} بالنصب. قال صاحب اللوامح ولا أعرفُ وجهَه لأنه يُقال ثَنَيْتُ ولم أسمعْ ثَنَأْت، ويجوز أنه قلبَ الياءَ ألفًا على لغة مَنْ يقول أَعْطَات في أَعْطَيْت، ثم هَمَز الألفَ على لغةِ مَنْ يقول: {وَلاَ الضألين} [الفاتحة: 7].
وقرأ ابنُ عباس أيضًا تَثْنَوي بفتح التاء وسكون المثلثة وفَتْحِ النونِ وكسرِ الواو بعدها ياءٌ ساكنةً بزِنَة تَرْعَوي وهي قراءةٌ مُشْكلة جدًا حتى قال أبو حاتم: وهذه القراءةُ غلطٌ لا تتَّجه وإنما قال: إنها غلط؛ لأنه لا معنى للواو في هذا الفعل إذ لا يُقال: ثَنَوْتُه فانثوى كرَعَوْته، أي: كفَفْتُه فارعوى، أي: فانكفَّ ووزنه افعلَّ كاحمرَّ.
وقرأ نصر بن عاصم وابن يَعْمر وابن أبي إسحاق {يَثْنُون} بتقديم النون الساكنة على المثلثة.
وقرأ ابنُ عباس أيضًا {لتَثْنَوْنِ} بلام التأكيد في خبر {إن} وفتح التاءِ وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نونٌ مكسورةٌ وهي بزنة تَفْعَوْعِلُ، كما تقدَّم، إلا أنها حُذِفَت التاء التي هي لامُ الفعل تخفيفًا كقولهم: لا أدرِ وما أَدْرِ. و{صدورُهم} فاعلٌ كما تقدم.
وقرأ طائفةٌ: {تَثْنَؤُنَّ} بفتح التاء ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نونٍ مفتوحةٍ ثم همزةٍ مضمومةٍ ثم نون مشددة، مثل تَقْرَؤُنَّ، وهو مِنْ ثَنَيْتُ، إلا أنه قَلَبَ الياءَ واوًا لأن الضمةَ تنافِرُها، فجُعِلَت الحركةُ على مجانِسها، فصار اللفظُ تَثْنَوُوْنَ ثم قُلبت الواوُ المضمومةُ همزةً كقولهم: {أُجوه} في {وُجوه} و{أُقِّتَتْ} في {وقِّتت} فصار {تَثْنَؤُون}، فلمَّا أُكِّد الفعلُ بنونِ التوكيد حُذِفَتْ نونُ الرفع فالتقى ساكنان: وهما واوُ الضمير والنون الأولى مِنْ نون التوكيد، فحُذِفَتْ الواو وبقيت الضمةُ تدلُّ عليها فصار تَثْنَؤُنَّ كما ترى. و{صدورَهم} منصوب مفعولًا به فهذه إحدى عشرةَ قراءةً بالغْتُ في ضبطها باللفظ وإيضاح تصريفها؛ لأني رأيتها في الكتب مهملةً من الضبط باللفظ وغالبِ التصريف، وكأنهم اتَّكلوا في ذلك على الضبطِ بالشكل في الكتابة وهذا متعبٌ جدًا.
قوله: {لِيَسْتَخْفُواْ} فيه وجهان، أحدهما: أن هذه اللام متعلقةٌ ب {يَثْنُون} وكذا قاله الحوفي، والمعنى أنهم يفعلون ثَنْي الصدورِ لهذه العلة.
وهذا المعنى منقولٌ في التفسير ولا كُلْفَةَ فيه. والثاني: أن اللام متعلقةٌ بمحذوفٍ، قال الزمخشري: {ليَسْتَخْفُوا منه} يعني ويريدون: ليستَخْفُوا من اللَّه فلا يُطْلِعُ رسولَه والمؤمنين على ازْوِرارهم، ونظيرُ إضمارِ {يريدون} لعَوْدِ المعنى إلى إضماره الإِضمارُ في قولِه تعالى: {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] معناه: {فضرب فانفلق} قلت: ليس المعنى الذي يقودُنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا؛ لأن ثَمَّ لابد منْ حذفِ معطوفٍ يُضْطر العقلُ إلى تقديره؛ لأنه ليس مِن لازم الأمر بالضرب انفلاقُ البحر فلابد أن يُتَعقَّل {فضرب فانفلق}، وأمَّا في هذه فالاستخفاف علة صالحةٌ لتَثْنيهم صدورَهم فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإِرادة.
والضميرُ في {منه} فيه وجهان، أحدهما: أنه عائد على رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو ظاهرٌ على تعلُّق اللام ب {يَثْنون}. والثاني: أنه عائدٌ على اللَّه تعالى كما قال الزمخشري.
قوله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ} في هذا الظرف وجهان، أحدهما: أنَّ ناصبَه مضمرٌ، فقدَّره الزمخشري ب {يريدون} كما تقدَّم، فقال: ومعنى ألا حين يَسْتَغْشُون ثيابهم: ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابَهم أيضًا كراهةً لاستماع كلامِ اللَّه كقولِ نوحٍ عليه السلام: {جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7]، وقدَّره أبو البقاء فقال: ألا حين يَسْتَغْشون ثيابهم يَسْتخفون. والثاني: أن الناصبَ له {يَعْلَمُ}، أي: ألا يعلمُ سِرَّهم وعَلَنهم حين يفعلون كذا، وهو معنى واضح، وكأنهم إنما جوَّزوا غيره لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرِّهم وعَلَنِهم بهذا الوقت الخاص، وهو تعالى عالمٌ بذلك في كل وقت. وهذا غيرُ لازمٍ، لأنه إذا عُلِم سِرُهم وعلنُهم في وقتِ التغشية الذي يخفى فيه السرُّ فأَوْلى في غيره، وهذا بحسب العادةِ وإلا فاللَّهُ تعالى لا يتفاوتُ عِلْمُه. وما يجوز أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: تُسِرُّونه وتُعْلِنونه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} أي يسترون ما تنطوي عليه عقائدهم، ويُضْمِرون للرسول عليه السلام وللمؤمنين خِلاَفَ ما يُظْهِرون، والحقُّ- سبحانه- مُطَّلِعٌ على قلوبهم، ويعلم خفايا صدورهم، فتلبيسُهم لا يُغْنِي عنهم من الله شيئًا، وكان الله- سبحانه- يُطْلِعُ رسولَه عليه السلام على ما أخْفَوْه إمَّا بتعريفِ الوحي، أو بإشهادٍ لِقُوَّةِ نورٍ، وكذلك المؤمنون كانوا مخصوصين بالفراسة، فكل مؤمن له بِقَدْرِ حاله من الله هداية، قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسةَ المؤمن ينظر بنور الله» ولقد قال قائلهم.
أَبِعَيْنِي أَرَاكَ أَمْ بفؤادي؟ ** كلُّ ما في الفؤاد للعين بادِ

. اهـ.

.تفسير الآية رقم (6):

قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم أتبع ذلك بما يدل على شمول العلم والقدرة معًا فقال: {وما} وأغرق في العموم بقوله: {من دآبة} ودل على أن الانتفاع بالأموال مخصوص بأهل العالم السفلي بقوله: {في الأرض} أي صغرت أو كبرت: {إلا على الله} أي الملك الأعلى الذي، له الإحاطة وحده لا على غيره: {رزقها} أي قوتها وما تنتفع وتعيش به بمقتضى ما أوجبه على نفسه، تحقيقًا لوصوله وحملًا على التوكل فيه، لأن الإفصال على كل نفس بما لا تعيش إلا به ولا يلائمها إلا هو مدة حياتها أدق مما مضى في العلم مع تضمنه لتمام القدرة، والآية مع ذلك ناظرة إلى ترغيب آية: {وأن استغفروا ربكم} فالمراد: أخلصوا العبادة له ولا تفتروا عن عبادته للاشتغال بالرزق فإنه ضمنه لكم وهو عالم بكل نفس فلا تخشوا من أنه ينسى أحدًا، وقال: {وفي الأرض} ليعم ما يمشي على وجهها وما في أطباقها من الديدان ونحوها مما لا يعلمه إلا هو، لقد شاهدت داخل حصاة من شاطئ بحر قبرس شديدة الصلابة كأنها العقيق الأبيض دودة عندها ما تأكل، وأخبرني الفاضل عز الدين محمد بن أحمد التكروري الكتبي أنه شاهد غير مرة في دواخل حجارة تقطع من جبل مصر الدود عنده ما يأكل من الحشيش الأخضر وما يشرب من الماء؛ ونبه بقوله: {ويعلم مستقرها} أي مكانها الذي تستقر فيه: {ومستودعها} أي موضعها الذي تودع فيه قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة او بعده من قبر أو فلاة أو غير ذلك على ما يحيط به علمه من تفاصيل السكنات والحركات ما كان منها وما يكون من كل ذلك مما يحير الفكر ويدهش الألباب، ثم جعل فاصلة الآية ما هو في غاية العظمة عند الحق وهو: {كل} أي من ذلك: {في كتاب مبين} فإنه ليس كل ما يعلمه العبد يقدر على كتابته ولا كل ما يكتبه يكون مبينًا بحيث إنه كلما أراد الكشف منه وجد ما يريده، وإذا وجده كان مفهمًا له؛ والدابة: الحي الذي من شأنه الدبيب؛ والمستقر: الموضع الذي يقر فيه الشيء، وهو قراره ومكانه الذي يأوي إليه؛ والمستودع: المعنى المجعول في قراره كالولد الذي يكون في البطن والنطفة التي في الظهر، وقد جعل سبحانه في كتابه ما ذكر حكمًا منها ما للملائكة فيه من العبرة عند المقابلة بما يكون من الأمور المكتوبة قبل وجودها. اهـ.